لم تكن الضربات الجوية التي نفذتها الهند مؤخرًا على مناطق في كشمير الباكستانية تطورًا مفاجئًا، بل تأتي في سياق سلسلة من العمليات “الجراحية” التي درجت عليها نيودلهي في السنوات الأخيرة، ردًا على هجمات تُحمّل مسؤوليتها لجماعات

مدعومة من إسلام آباد.

لكن اللافت في هذا التصعيد الجديد هو توقيته ودلالاته السياسية، في ظل تصاعد الضغوط الداخلية على الحكومة الهندية، وتعقيد المشهد الإقليمي عمومًا.

من حيث الكم، تمتلك الهند رابع أقوى سلاح جو في العالم، يضم أكثر من 2300 طائرة عسكرية، ونحو 135 ألف عنصر نشط. الأسطول الهندي يشمل طائرات “رافال” و”سوخوي 30 إم كا آي” و”ميغ-29″ و”تيجاس”، لكن ما زال يفتقر إلى مقاتلات الجيل الخامس والتقنيات الشبحية.

باكستان، بدورها، تُعوّل على فاعلية محدودة عالية، رغم الفارق العددي، بفضل طائرات “إف-16″ و”جي إف-17” و”جي-10″، إلى جانب استثمارها المتزايد في الطائرات بدون طيار والمراقبة الجوية.

إلا أن كلا الطرفان يعانيان من ثغرات هيكلية: عدم وجود منظومات شبحية أو قاذفات استراتيجية، مما يجعل كلاهما في موقع دفاعي بالدرجة الأولى. هذا الواقع يعزّز خيار “الضربة المحدودة” لكنه يُبقي الباب مفتوحًا أمام حسابات خاطئة قد تؤدي لتصعيد خارج السيطرة.

الهند تسير بخطى متسارعة نحو الاكتفاء الذاتي في التصنيع العسكري. مشروع “صُنع في الهند” بات يهدف ليس فقط إلى تقليل الاعتماد على الخارج، بل أيضًا إلى تصدير المنظومات القتالية.

شركات مثل BrahMos، التي تطور صواريخ كروز بالتعاون مع روسيا، وBharat Electronics، التي تهيمن على سوق الرادارات والأنظمة الإلكترونية، تُشكّل ركيزة هذا التحول.

في المقابل، تعتمد باكستان على شراكات إستراتيجية، أبرزها مع الصين وتركيا، لتعزيز قدراتها الدفاعية. شركات مثل POF وGIDS وDEPO تُنتج ذخائر، أسلحة خفيفة، وطائرات بدون طيار بتقنيات مجرّبة، ويتم تصديرها بنجاح إلى عدد من دول الشرق الأوسط وأفريقيا.

الفرق هنا ليس فقط في الحجم أو التقنية، بل في رؤية كل طرف لدوره الإقليمي: الهند تسعى لأن تكون قوة صناعية قادرة على التصدير والتأثير، في حين تسعى باكستان للتركيز على الكفاءة التشغيلية وتعويض الفجوة من خلال التحالفات.

كلا الطرفين يمتلك أسلحة نووية وقدرات إيصالها عبر الجو أو الصواريخ. وهذا ما يخلق ما يُعرف بـ”الردع المتبادل”، لكنه لا يمنع التصعيد المحدود، بل يضبط إيقاعه فقط.

الإشكالية أن هذا الردع النووي لم يمنع الصراعات في أعوام 1999، 2016، 2019، و2025. وهذا يشير إلى أن الردع النووي دون وجود آليات سياسية حقيقية، لا يمكنه تأمين الاستقرار. بل على العكس، قد يؤدي إلى شعور زائف بالأمان، يشجع على المجازفة في الضربات المحدودة.

رغم التواصل الأميركي الأخير مع الطرفين، والتصريحات الصادرة عن المملكة المتحدة والسعودية، إلا أن التأثير الخارجي يبقى محدودًا.

السبب في ذلك أن الصراع يحمل حمولة قومية ثقيلة في كلا البلدين، ويُستخدم سياسيًا داخليًا، مما يضعف أي تدخل خارجي.

إضافة إلى ذلك، فإن الولايات المتحدة تنظر إلى الهند كشريك أساسي في مواجهة الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مما يُعقّد موقفها تجاه أي تصعيد مع باكستان.

الصراع الهندي الباكستاني تجاوز كونه خلافًا على إقليم كشمير، ليصبح صراعًا استراتيجيًا على الزعامة الإقليمية في جنوب آسيا، يمتد إلى سباق تسلح، وتوازن ردع هش، وصناعات عسكرية متنامية.

العمليات الأخيرة وإن بدت محدودة، تحمل في طياتها رسالة مزدوجة: مفادها أن الردع لا يعني سلامًا، وأن أي خطأ في الحسابات قد يؤدي إلى عواقب لا تُحمد.

وفي ظل غياب قنوات سياسية مفتوحة، تبقى المنطقة عالقة في دائرة تصعيد موسمي، وردع غير مكتمل.

 

Star InactiveStar InactiveStar InactiveStar InactiveStar Inactive